يتصدر المشهد عدد من القوي المنتمية للتيار الديني، سواء كانت أحزابا مثل حزب "الوسط" ذي المرجعية الإسلامية، أو "جماعة الإخوان المسلمين" وحزب "الحرية والعدالة" المعبر عنها، أو السلفيين والأحزاب المعبرة عنهم، إضافة إلي أعضاء الجماعات الإسلامية الراديكالية المختلفة الذين تبنوا مبادرة عدم العنف في مواجهة المجتمع والنظام السياسي منذ أواخر التسعينيات من القرن الماضي. ولعل أبرز قوتين إثارة للجدل هما الإخوان المسلمون والسلفيون.
1- جماعة الإخوان المسلمين:
يمثل الإخوان المسلمون كبري الحركات الإسلامية الحديثة، وقد أنشأها الشيخ حسن البنا في الإسماعيلية 8291. وهي بتعبير الشيخ حسن البنا منشئها، فكرة جامعة تضم كل المعاني الإصلاحية فهي "دعوة سلفية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية". ومثل أي جماعة دينية أخري، انطلقت حركة الإخوان من مقولة "إن السر في تأخر المسلمين ابتعادهم عن دينهم، وإن أساس الإصلاح العودة إلي تقاليد الإسلام وأحكامه، وإن ذلك ممكن لو عمل له المسلمون، وإن فكرة الإخوان تحقق هذه الغاية".
ولتحقيق كل هذه الأهداف، لابد من إقامة الحكومة الإسلامية التي تطبق قواعد الإسلام، كما أراد الإخوان إحياء الخلافة، ومفهوم الجامعة الإسلامية، تحقيقا لوحدة المسلمين وتضامنهم. وهكذا، فإن جماعة الإخوان المسلمين تتخذ من الإسلام منهاجا لها، وتتسم بالشمول. فهي تتبني الرؤية القائلة إن الإسلام قدم نظاما شاملا للحياة في مختلف مجالاتها.
وأهم ما يثير درجة كبيرة من عدم التأكد بالنسبة لأهداف الجماعة هو اتسامها بالغموض وعدم التحديد بالنسبة لشكل النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي. وقد يكون هذا الغموض مقصودا لبعض قادة الجماعة لإعفائهم من مسئولية تحديد الأهداف السياسية والاجتماعية والاقتصادية،وتحديد موقفها من الأحداث الجارية(
.
وقد كان قيام ثورة 25 يناير نقطة تحول في تاريخ جماعة الإخوان المسلمين. فبعد أن قضت الجماعة معظم تاريخها في العمل السري منذ نشأتها قبل 83 عاما، بدأت العمل العلني من خلال حزب "الحرية والعدالة" الذي وافقت عليه لجنة شئون الأحزاب في 6 يونيو 2011(9).
وأهم ما يلاحظ علي مسار حركة الجماعة بعد ثورة 25 يناير ما يلي:
- إنه لا تزال هناك حالة من عدم الوضوح والغموض تشوب السلوك السياسي للجماعة. وبالرغم من إعلان الجماعة أن حزب "الحرية والعدالة" سوف يكون مستقلا عن الجماعة، فإنه لا يعدو أن يكون ذراعا سياسية لها.
- بالإضافة إلي أن برنامج الحزب، وهو المعبر سياسيا عن الجماعة، يبدو غير واضح، ولا يحدد موقفة من ترشيح المرأة والأقباط للرئاسة، واكتفي بالنص علي مبدأ تكافؤ الفرص والمساواة. وبالنسبة للاقتصاد، أوضح برنامج الحزب أنه يستمد رؤيته الاقتصادية من مرجعية النظام الاقتصادي الإسلامي، كما أعلن الحزب في برنامجه عن تشجيعه للسياحة.
- إذا كان اختيار مسمي حزب "الحرية والعدالة" يمثل إشارة معبرة عن رغبة الجماعة في السير خلف التجربة التركية، فإنه لا تزال هناك شكوك واضحة داخل قطاعات عريضة من المجتمع تتعلق بقدرة جماعة الإخوان علي تقديم تصورهم لدولة مدنية تقوم علي المواطنة والديمقراطية، استنادا إلي مرجعية إسلامية رصينة، كما هو الحال بالنسبة لتركيا(10).
- إن هناك حالة من التضارب وعدم التنسيق الداخلي في تصريحات قيادات الجماعة، ناهيك عن أن بعض التصريحات تبدو خارج نطاق المنطق، مثل التصريح بأن هزيمتي 1956 و1967 كانتا نتيجة استبداد النظام السياسي وتعسفه تجاه جماعة الإخوان المسلمين، أو التصريح بأن الثورة علي النظام السياسي السابق كانت نتيجة لتجاوزه في حق جماعة الإخوان المسلمين والشهيد حسن البنا(11).
- إن هناك حركة تجديدية داخل الجماعة، يقودها شباب الجماعة الذين يسعون لنشر ثقافة ديمقراطية جديدة داخل الجماعات، بحيث يكون لمجلس الشوري سلطات حقيقية تشمل مراقبة أداء مكتب الإرشاد. ولعل التضارب داخل الجماعة بشأن موقفها من المشاركة في جمعة الغضب الثانية يعكس درجة من عدم التوافق الجيلي داخل الجماعة(12).
2- الجماعات السلفية:
ربما لم تسفر ثورة 25 يناير عن بروز قوة سياسية واجتماعية في المجتمع بقدر ما أبرزت التيار السلفي، بالرغم من أنه لم يكن يوما جزءا من الحراك السياسي. وقد كان الاستفتاء علي التعديلات الدستورية في 19 مارس 2011، أول إعلان عن ظهور السلفيين، حيث أصدرت الدعوة السلفية بالإسكندرية أول بيان لها، طالبت فيه الشعب المصري بالمشاركة في الاستفتاء بالموافقة علي التعديلات، ضمانا لعدم التعرض للمادة الثانية من الدستور.
وقد اتسم السلوك السياسي للجماعات السلفية منذ الثورة بما يلي:
- العمل علي إقصاء الآخر، ولا يزال تصريح الداعية السلفي البارز محمد حسين يعقوب حول "غزوة الصناديق" ماثلا في الأذهان.
- إن التيار السلفي لا يتورع عن استخدام العنف، وقد برز ذلك من خلال معركة هدم الأضرحة، وقطع الأذن، واقتحام بعض المنازل، وإثارة أحداث الفتنة الطائفية.
- أراد السلفيون أن يضعوا أقدامهم بقوة في الحياة السياسية، فبدأ بعضهم في تشكيل مجالس وائتلافات كنوع من التنظيم، ومحاولة لتجميع بعضهم بعضا في كيان واحد، منها "مجلس شوري العلماء"، وكذلك "الهيئة العليا للحقوق والإصلاح". وقد كانت الخطوة الأهم علي طريق السياسة إعلانهم تأسيس حزبي "الفضيلة" و"النور".
حزب النور هو أول حزب سلفي تتم الموافقة عليه، ويتضمن برنامجه النص علي أن الشريعة الإسلامية مصدر التشريع، وتأكيد تأمين الحرية الدينية للأقباط، وإقامة دولة حديثة، واستقلال الأزهر، والقضاء علي النظام الربوي في البنوك والإقراض، والتوسع في التمويل الإسلامي، وقدأعلن الحزب أن أبوابه مفتوحة للجميع(13).
والواقع أن بروز بعض التيارات الإسلامية بشكل مفاجئ بعد ثورة 25 يناير، وبعد عقود من العزلة، أدي إلي إصابة المجتمع بصدمة، خاصة في ظل هذا الخضم من التصريحات غير المسئولة، والتي أثارت -ولا تزال تثير- قدرا كبيرا من الجدل.
وتتميز العلاقة بين مصر والسودان بالارتباط والجوار الجغرافي والتاريخ المشترك، والتمازج العرقي، ومشترك اللغة العربية والثقافة ومن ثَمَّ المصالح المشتركة.
وفي ظل تنامي العلاقات الدولية مؤخراً تتجه الدول إلى البحث عن المقومات المشتركة التي تنشدها مع غيرها في توثيق التعاون في ما بينها لخدمة مصالحها المشتركة؛ سواء كانت هذه المقومات سياسية، أو حضارية، أو اقتصادية. ومن هذا المنطلق اتجهت كلٌّ من مصر والسودان إلى الارتباط ببعضها برباط علاقات (التكامل) في فترة من الفترات؛ لتحقيق أفضل استخدامٍ للموارد المشتركة في مجالات السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والأمن، وصولاً إلى غاية رفاهية شعبَي وادي النيل، وتأمينهما ضد المهددات الداخلية والخارجية. ولكن مؤشر توتر العلاقات بينهما ظل كعادته في الارتفاع، حتى توقف نشاط برنامج (التكامل)، وأُلغيت اتفاقية الدفاع المشترك بينهما. والآن وفي ظل ثورة الخامس والعشرين من يناير التي رفعت شعارات الوطنية ومحاربة الفساد والإصلاح السياسي والإداري والاقتصادي، قد تجد مصر أنها في طريق العودة إلى موقع الريادة في الوطن العربي والإسلامي، وأن هذا الطريق يمر عبر بوابة السودان الذي ستحتاج لدعمه الأمني باعتباره العمق الإستراتيجي لمصر، ودعمه الاقتصادي لحل مشكلة الأمن الغذائي، ودعمه السياسي في المنظمات الإقليمية والدولية.
مصر:
مصر هي أرض الحضارات والثقافات، وظلت هكذا فاعلة عبر التاريخ تؤثر وتتأثر بالسياسيات الإقليمية والدولية سلباً وإيجاباً بما يفرضه موقعها الجغرافي، ودورها المتميز في الواقع السياسي.
تقع مصر في الركن الشمالي الشرقي لإفريقيا، وتدخل في قارة آسيا بجزء من أراضيها (7% من المساحة)؛ وذلك بين خطي عرض 22. 35 - 32 شمالاً وخطي طول 25 - 35 شرقاً، تطل على البحر الأبيض المتوسط بساحل يبلغ طول 909 كم، وشاطئ البحر الأحمر بطول ساحل يصل إلى 1. 370 كم، مساحتها 1. 001. 450 كم مربع، تحدُّها غرباً ليبيا، ومن الجنوب السودان، وشرقاً البحر الأحمر وفلسطين المحتلة، وشمالاً البحر الأبيض المتوسط.
تشير الدراسات إلى أن حجم السكان يفوق الـ 70 مليون نسمة الآن.
تُعَدُّ قناة السويس من أهم الممرات المائية؛ إذ تمرُّ من خلاله تجارة الشرق الأقصى، والخليج العربي وشرق إفريقيا في طريقها إلى أوروبا عبر البحر المتوسط، وهي نقطة التقاء للشرق والغرب.
وتتأثر مصر بدول الجوار كثيراً، ولكن تأثُّرها بالسودان أكبر؛ فهو العمق الإستراتيجي لمصر كما ظهر في كل حروبها، وكل الحملات التي غزت السودان كانت تدخل عن طريق مصر. والسودان بحكم الموقع يمثل جواراً إستراتيجياً على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري، والسودان يمثل أكبر وعاء لحوض النيل، وهو ثاني دول حوض النيل انتفاعاً بمياهه بعد مصر.
لقد احتلت مصر في القرن الثامن عشر موقعاً إستراتيجياً على خطوط التجارة العالمية، نتيجة للثورة الصناعية في أوروبا؛ جعلتها محطة أساسية للغربيين في طريقهم إلى الهند، وهدفاً لمطامع الإمبراطوريات الأوروبية المتنافسة على آسيا وإفريقيا، بعد أن خسرت مستعمراتها الأمريكية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وازدادت أهمية الموقع الجغرافي لمصر بعد إنشاء قناة السويس التي اختصرت طريق الملاحة التجارية، وسهلت استعمار إفريقيا والشرق الأوسط، ولعبت مصر دوراً هاماً في القرن العشرين، عبر مساهمتها في تحرير المناطق المستعمرة في العالم العربي وإفريقيا، ومن ثَمَّ القضاء على الإمبراطوريتين الفرنسية والإنجليزية، وشكلت سداً منيعاً أمام المشروع الصهيوني في إقامة دولة إسرائيل الكبرى.
أن ربط الإسلام بالسياسة والدولة، ومنذ عصر السادات تحديدا، لم يكن فقط أداة فى الصراع على السلطة محليا، إنما كان أحد أدوات الصراع الدولي بين الغرب الرأسمالي، ممثلا بالولايات وحلفائها القد امى من الدول الإسلامية كالسعودية وباكستان وحلفائها الجدد ومنهم مصر، ضد القطب الشيوعي، ممثلا بالإتحاد السوفيتي، فيما عُرف وسط الشعوب الإسلامية بالجهاد على أرض أفغانستان.
لقد سقط الإتحاد السوفيتي، وإنتهى بسقوطه عصر الإيديولوجيات، وصرنا بكل أسف فى فلك قطب واحد، ولكن أمامنا خيار أفضل أن نكون عضو فاعل فى عالم واحد توحده تحديات كونية كبرى، ولكنه بلا شك يتيح لنا فرص إيجابية لمستقبل مشرق بقدر عطاءنا الحضاري الإنساني.
فكيف نود أن نرى أنفسنا فى هذا العالم الجديد؟ وكيف نود أن نرى مصر الوطن؟ لا زلنا، إلى اليوم بكل أسف ، وبعد كل ما حدث داخل الوطن عبر ستون عاما من التراجع فى كل مناحي الحياة، وخاصة منذ حكم السادات ، ولم نعزم بعد على المضى نحو المستقبل بثقة، محكمين العقل الجمعي فى سعيه للحاق بركب الحضارة الإنسانية بإعتبارها ميراث بشري لم نشارك فقط فى صنعه، بل وكنا فيه روادا فى زمن الحرية والإبداع.
نحن اليوم فى حيرة من أمرنا فصيل ينظر الى الأمام تجاه عالم الحرية والكرامة والحداثة والتقدم، وفصيل آخر ينظر إلى الخلف مشدودا نحو "يوتوبيا" سياسية دينية لا يمكن إن يعيدنا التاريخ إليها، إذ أن ذلك يمثل تحديا لسُنة الخالق فى التطور والتغيير!
المراوحة بين الفصيلين، وهو ما فعله الحكام على مدى ستة عقود لم ينفع فى حل مشاكل مصر وملايينها المتزايدة، ولن ينفع اليوم بعد الثورة، بل سيؤدى بمصر إلى ما يمكن إعتباره فى القاموس العربي المعاصر"أم الكوارث"، والعياذ بالله.
نعم، هناك أمورا مقلقة لا نزال نراها اليوم فى الشارع المصري .. أمور لا تختلف عما كان عليه الأمر قبلا. فهل فشلت الثورة؟ أم أُختطفت، كما يقول البعض؟ قد تكون مثل هذه الأحكام متسرعة، فغالبا ماتحتاج المجتعات والدول بعد ثورات شعوبها فترة، قد تقصر أو تطول، لإعادة بناء تلك الدول ومؤسساتها بالشكل الجديد الذي يمكنها من القيام بدورها فى تلبية مطالب هذه الشعوب.
إعادة بناء الدولة المصرية اليوم يقع فى الأساس على عاتق الشعب المصري نفسه، وبريادة مثقفيه داخل الوطن وخارجه. وإعادة بناء الدولة المصرية اليوم لابد أن يقوم على أسس تختلف تماما عما كانت عليه الدولة التي سقطت، أو بمعنى أدق الدولة التي إنهارت مؤسساتها تحت معاول الحكم الإستبدادي البوليسي الفاسد وثقافة التعصب حيث تآكلت قيم الوطنية المصرية لدى فئات جديدة على المجتمع لصالح الفكر القبلي المعادي للحداثة والفكر الإنساني.
وبمعنى آخر لا يمكن أن تكون الدولة بعد ثورة 25 يناير إلا دولة حديثة أي عصرية تنتهج العلم والتخطيط فى إدارة شئونها، نظامها ديموقراطي حقيقي، مؤسس على أحترام كرامة المصريين بالمعني المطلق، أي من الناحية الإقتصادية والسياسية والإجتماعية، أي أن يتمتع فيها الجميع بحقوق المواطنة الكاملة وسيادة القانون.
--
كاتب المقال
دكتور في الحقوق و خبيرفي القانون العام
ورئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية
عضو والخبير بالمعهد العربي الاوروبي للدراسات الاستراتيجية والسياسية بجامعة الدول العربية